"عنوان الشرف الوافي" وإبداع الحضارة الإسلامية

حفل تراثنا العلمي الذي خلفه الأجداد بضرب غريب من التآليف، إن في صنعة الكتاب أو في التصرف بمادته، تفتقت عنه أذهان القوم فافتنوا فيه ما شاءت لهم عبقرياتهم الفذة، لقد تجاوزوا به المادة العلمية وقيمتها فخرج إلى شيء من هذا الذي يسمونه الترف الفكري، نعم، قد يعيبه من أدرك قيمة الزمن في حياة هذا الإنسان، إلا أنه لا بد واقف وقفة الدهش المتحير من نبوغ هذه العقول وإبداعها.

فأين من قوانا وملكاتنا تأليف تفسير لكتاب الله بحروف مهملة ليس فيها حرف منقوط؟ كما فعل أبو الفضل فيض الله الأكبر آبادي الهندي (ت 1004هـ) في كتابه سواطع الإلهام المطبوع في الهند سنة 1306هـ[1] ومحمود الحمزاوي[2] الدمشقي (ت 1305هـ) في تفسيره المسمى در الأسرار.

وقد أخبرني شيخنا العلامة بكر أبو زيد أنه اطلع على مجلد مطبوع لأحد العلماء الهنود؛ فسر به القرآن بحروف منقوطة ليس فيها حرف مهمل[3]!

ذكر العلامة الكتاني في فهرس الفهارس ص 561: "أن لعبد الرؤوف المناوي كتاباً في الأحاديث القصار، جمع فيه عشرة آلاف حديث، في كل ورقة مئة، في كل وجه خمسون، وفي كل سطر حديثان، كل حديث في نصف سطر، يقرأ طرداً وعكساً سماه كنـز الحقائق في حديث الخلائق.." وهو مطبوع لكن بعض العلماء أنكر أن يكون مثاله على ما ذكره الكتاني؛ إلا أن يكون لمؤلفه طريقة لم تفهم عنه.

ومن هذا - وإن لم يكن من التصنيف - ما أتوا به من نثر ونظم عجيب الوضع، كالذي فعله الحريري في مقاماته من حال وعاطل، وما يقرأ طرداً وعكساً، وما ذكر عن بديع الزمان الهمذاني من أنه كان يكتب ما اقترح عليه فيبدأ بآخر سطر منه إلى الأول ويخرجه كأحسن شيء وأملحه. "يتيمة الدهر" 4/256.

وقد أورد صلاح الدين الصفدي في كتابه ألحان السواجع بيتين مدحه بهما أبو المظفر العقيلي وزعا على جدول فيقرآن بطرق عدة[4].

وليحيى الصرصري قصيدة في كل بيت منها حروف الهجاء كلها أولها: "أبت غير ثج الدمع مقلة ذي حزن". "الأعلام" 8/177.

وقد كان هذا الضرب الغريب من الإبداع يستهويني، فاجتمع لدي منه قدر لا بأس به حقه أن يفرد في كتاب؛ ليعلم ناشئة هذا الجيل - العاق تراثه - أي شأو عظيم بلغه أجدادنا في كل ميدان طرقوه؛ وأن من العقوق أن نجهل - فيما نجهله - أن أجدادنا أول من عرف "الشفرة" وهي الكتابة السرية: "وقد كتبوا بالشفرة من أيام المأمون إلى الحروب الصليبية، فأخذه الإفرنج عن المسلمين، ولجهلنا بمعارف أهلنا أخذناه باسمه الجديد عن الإفرنج وهو "الشفرة" التي نقلها الإفرنج عن كلمة صفر العربية، واستعملوها بمعنى الأرقام لأنهم استخدموا الأرقام بدلاً من الحروف في الكتابة السرية، ثم استعمل لفظ (الجفر) بدل الشفر، لتقارب المخرجين لأن الجفر كان يستعمل في الألغاز.

ونظراً لأن هذا العلم كان خفياً خاصاً بإسرار الحكومات ظل مصوناً، ولذلك جهل كثير من الناس معنى هذه الكلمة، حتى إن كتب اللغة لا تشير إليها، ومما يذكر أن المكتبة الزكية كانت تحتوي على مجموعة كاملة للمؤلفات العربية الخاصة بالكتابات السرية وكيفية استخراجها عند العرب"[5].

وأما ما كان من إبداع المسلمين في التأليف بعامة فانظر إلى الكلام النفيس الذي ذكره الكتاني  في كتابه الحافل التراتيب الإدارية 2/182، فقد أورد فيه ما لا تجده مجموعاً في كتاب.

عنوان الشرف الوافي:

ومن هذا الإبداع؛ بل ومن أعجبه حتى ليكاد يعجز عنه غالب الطباع البشرية كما قال الشوكاني في البدر الطالع ص 159؛ كتاب "عنوان الشرف الوافي في علم الفقه والعروض والتاريخ والنحو والقوافي"، لشرف الدين إسماعيل بن أبي بكر بن عبد الله الشاوري الشرجي اليماني المعروف بابن المقرئ.

ولد ابن المقرئ سنة 754هـ في أبيات حسين في منطقة الشرجة من سواحل اليمن، ثم هاجر إلى الأبواب الأشرفية عام 782هـ في حداثة السن بعد أن أخذ شيئاً من العلم في الشرع والأدب، ثم أقبل على العلم فقرأ عدة فنون وبرز فيها جميعها وفاق أهل عصره وطار صيته وصار إماماً في الفقه والعربية، قال الخزرجي: "وقد قرأ علي ديوان المتنبي فاستفدت بفهمه وذكائه أكثر مما استفاد مني.."[6].

وما زال يتدرج ويترقى حتى أدناه الملك الأشرف إسماعيل، ثم أصبح مكرماً عند ولده من بعده، إلى أن توفاه الله سنة 837هـ رحمه الله تعالى.

كان ابن المقرئ يطمع في أن يتولى قضاء الأقضية بعد وفاة المجد الفيروزآبادي فلم يتم له، بل كان يرجوه في حياة المجد ويتحايل عليه، بحيث عمل المجد للسلطان الأشرف كتاباً أول كل سطر منه ألف فاستعظمه السلطان، فعمل ابن المقرئ عنوان الشرف الوافي فبهر به علماء عصره، قال السخاوي: "لم يتم في حياة الأشرف فقدمه لولده الناصر فوقع عنده بل عند سائر علماء عصره ببلده وغيرها موقعاً عظيماً وأعجبوا به". "الضوء اللامع" 2/292، "البدر الطالع"، ص 158، مقدمة عنوان الشرف للأنصاري، "هجر العلم ومعاقله في اليمن" للقاضي الأكوع 1/38.

ألف ابن المقرئ كتابه على غير مثال سابق، حيث سلك: "هذه الطريق التي أخذ منها البكارة، وشرع لأهل العلم والفضل منهاجاً يقتفون مناره"، جمع فيه خمسة علوم، إذا قرئ على سياق السطور فهو علم الفقه، وإذا قرئ على أول سطر منه قراءة عمودية كان علم العروض، وإذا قرئ ثاني سطر عمودي منه كان علم التاريخ، وإذا قرئ ثالث سطر عمودي منه فهو علم النحو، وإذا قرئ رابع سطر عمودي منه كان علم القوافي!

فجعل ثلاثة علوم منه تتقاطع فلا يختل معنى كل علم بهذا التقاطع، وهي الفقه، والتاريخ، والنحو، وأما علم العروض فقد بدأ بكل سطر منه بالحرف الذي يبدأ به السطر في علم الفقه، والتزم في علم القوافي بأن يبدأ كل سطر منه بالحرف الذي ينتهي به السطر في علم الفقه.

لقد شحذ هذا التأليف أذهان العلماء بعد ابن المقرئ، فذكر الحنبلي في تاريخه در الحبب في ترجمة أحمد الشغري (ت 881هـ) أنه وضع تأليفاً جمع فيه خمسة علوم على مثال "عنوان الشرف"، وذكر الحاج[7] خليفة في "كشف الظنون" 2/1176: بأن ابن كميل الدمياطي المتوفى سنة 878هـ صنف كتاباً على نحو "عنوان الشرف" بزيادة علمين.. مقدمة "عنوان الشرف".

وقد ذكر القاضي الأكوع في "هجر العلم" 1/39: أن هذا النوع من التأليف قد اشتهر في اليمن فألف ابن المظفر "البرهان الكافي في عشرين علماً"، وألف القاضي السانة "الإعلام بنعم الله الواهب الكريم".. وألف البجلي "برهان البرهان".

قال السيوطي في بغية الوعاة 1/444 في ترجمة ابن المقرئ: "وقد عملت كتاباً على هذا النحو في كراسة في يوم واحد وأنا بمكة المشرفة، وسميته "النفحة المسكية والتحفة المكية.."[8]

هذا؛ ولم يكن "عنوان الشرف" هو كل مآثر ابن المقرئ، فقد كان له "إرشاد الغاوي" لم يأت فيه باسم معرف بأل التعريف، وله القصيدة المخلعة التي تقرأ على وجوه كثيرة ذكر الخزرجي أنها تقرأ على ألوف الألوف من الوجوه. "هجر العلم" 1/39.

طبع كتاب ابن المقرئ عنوان الشرف طبعات عديدة، منذ عهد الطباعة الحجرية إلى يومنا هذا، وأمثل نشراته - وهي المتداولة اليوم وعليها الإحالات هنا - النشرة التي حققها الشيخ عبدالله الأنصاري.. فرحم الله ابن المقرئ ما كان أحذقه وأشد ذكاءه، ولله هذه النفس الإنسانية، فقد جاء عنه في "الضوء اللامع" 2/295: "كان غاية في النسيان، قيل أنه لا يذكر ما كان في أول يومه، ومن أعجب ما يحكى في نسيانه: أنه نسي مرة ألف دينار بزنبيل ثم وقع عليه بعد مدة اتفاقاً فتذكره، وحاله لا يقتضي نسيان دون هذا القدر فضلاً عنه..".